السلام عليكم
هذا البحث حول بعض ماورد في الشعر الجاهلي عن أسباب ودواعي الأرتحال الجماعي للقبيلة أو الفخذ أو العشيرة ، أو ما يسمّى بهجرة القبيلة أو العشيرة أو الفخذ ، وقد وضعت هذا الموضوع في هذا القسم لارتباط الشعر الجاهلي بالشعر الفصيح .
وسأبدأ بذكر بعض الأسباب التي أعرفها مستفيداً من بعض المصادر ، وقد كان أكثر مصدر اعتمدت عليه في الأسلوب هو بحث للدكتور ( فاروق أحمد إسليم ) بعنوان ( الأنتماء في الشعر الجاهلي ) ، وقد كان مفتاحاً لي لمصادر أخرى في الموضوع .
وأقول مبتدأً من هذه الأسباب التي ذكرت في الشعر الجاهلي :
أولاً : أن يفكره الخلاف داخل القبيلة أحد بطونها على الارتحال:
فلقد كان النفي عن الديار أو الأبتعاد عنها من الوسائل المتبعة لإطفاء نيران الخلاف داخل القبيلة الواحدة، ومن الأخبار الدالة على ذلك أن خلافاً دبَّ بين بني جعفر وبني أبي بكر العامريين، فشبت الحرب بينهما، فخفذل الجعافرة، ونزلوا على حكم رئيس بني أبي بكر، الذي حكم بنفي بني جعفر عن بلادهم إلاّ أن يرتضوا بحكمه في مسألة دية القتلى، فارتحل بنو جعفر إلى اليمن وقد عبّر لبيد الجعفريّ عن استنكاره لذلك في قوله :
أبني كلابف كيف تنفى جعفرٌ
وَبنو ضبينةَ حاضروا الأَجباب
فالشاعر هنا يستنكر نفي قومه، وإنزال بني ضبينة في منازل الجعفريين، ولقد حققت عقوبة النفي الغاية، إذ خضع الجعفريون لحكم قومهم في دية القتلى، ورجعوا إلى منازلهم بعد حول من ارتحالهم .(أنظر شرح ديوان لبيد المقدمة ص 11 ، والديوان ص 23 ، وص 278 )
وإذا كان بنو جعفر قد رجعوا إلى منازلهم فإنّ جماعات أخرى ارتحلت كارتحالهم، ولكنها لم ترجع إلى منازلها مثلهم .
ثانياً : أن تلقى قبيلة أو فخذاً أو عشيرةً عنتاً من ملك يدفعها إلى الارتحال :
تفيد أخبار الجاهلية أن ملوك الحيرة كانوا يكرهون بعض الجماعات على الارتحال إذا غضبوا عليها، ومن ذلك أن المنذر بن ماء السماء خطب على رجل من اصحابه امرأةً من بني زيد بن مالك بن حنظلة من بني تميم فأبو أن يزوجوه، فنفاهم، فنزلوا مكّة ، وفيهم يقول الأسود بن يعفر :
ما بعد زيدف، في فتاةف فرّقوا
قتلاً، ونفياً، بعد حسنف تآدي
فتخيّروا الأرض الفَضاء لعزّهم
ويزيد رافدهم علَى الرّفاد
لقد اختار بنو زيد التميميون أن ينزلوا الأرض الفضاء، فنزلوا مكة استبقاءً لأنفسهم ولشرفهم.(أنظر شرح اختيارات المفضل 2/972،973 )
ثالثاً : أن تعجز موارد المكان عن كفاية القبيلة أو الفخذ أو العشيرة :
إنّ عجز موارد المكان عن تلبية مستلزمات الحياة المادية لسكانه يدفعهم إلى البحث عن وسائل أخرى لاستمرار معيشتهم
ومن ذلك سكن بني حنيفة في اليمامة، فقد ارتادها عفبيد ابن ثعلبة الحنفي، بأهله وغلمانه، فنزل فيها، ثم لحق به إخوته، وفي ذلك يقول عفبيد :
حلَلنا بدارف كان فيها أَنسها
فبادفوا وخلّوا ذات شيدف حفصونها
فصاروا قطيناً للفلاة بغربةف
رميماً، وصرنا في الديار قطينها
فسوف يليها بعدنا مفن يحلها
ويسكن عرضاً سهلَها وحزونها
(أنظر معجم البلدان لياقوت : مادة حجر ، معجم ما استعجم 1 / 83 -85 )
ومثل ذلك خبر نزول طيئ أجأ وسلمى ؛ وهو خبر مشهور ذكره ياقوت الحموي وغيره أن رجلين من طيئ خرجا من اليمن، فارتادا أجأ فوقفا من الخصب والخير على ما أعجبهما، فرجعا إلى قومهما، فأخبراهم به، فارتحلت طيئ بجملتها إلى الجبلين .
(أنظر معجم البلدان لياقوت : مادة أجا )
رابعاً : أن يضيق المكان بالقبيلة أو القبائل المتجاورة مع تكاثرهم :
وقد حوت مقدمة كتاب ( معجم ما استعجم ) طائفة من الأخبار والأشعار الدالة على الأرتحال بسبب تضاؤل موارد المكان لتكاثر سكانه ، ولاسيما المتعلقة بتفرّق أولاد معد بن عدنان، وبعض تلك الأخبار نَصّت على أن التكاثر كان سبباً في الارتحال، ومن ذلك أن ربيعة ومضر كانوا بتهامة وغورها “فكثروا وتضايقوا في منازلهم، فانتشرت ربيعة فيما يليهم من بلاد تهامة نجد” (معجم ما استعجم 1/79)
مع أن بعض تلك الأخبار والأشعار لم تشر صراحة إلى أثر التكاثر في الارتحال، بل اشارت إلى أثر التكاثر في طغيان جماعة على أخرى طغياناً يؤدي إلى حرب تنتهي بجلاء المغلوب، ومن ذلك بغي إياد حين تكاثرت على مضر وربيعة، وكانت منازلهم وديارهم واحدة في تهامة، فتظاهرت مضر وربيعة على إياد، فهفزمت إياد، وخرجت من تهامة (أنظر معجم ما استعجم 1/67-69)
خامساً : قد تحل بالمكان كارثة طبيعية تبدد جهد السكان المبذول للإقامة فيه، فيضطر سكانه إلى الارتحال عنه، وخراب سد مأرب شاهد ماثل للعيان، فبسببه ارتحلت الأزد، فاستقرت طائفة منهم بيثرب، وهم الأوس والخزرج، وأخرى بمكة، وهم خزاعة، وثالثة بعمان، وهم أزد عمان، ورابعة بالشام، وهم بنو جفنة (أنظر معجم البلدان : مأرب)
وقد ذكرت شواهد وأمثلة من عصور قديمة لارتباط ذلك بالعصر الجاهلي والشعر في ذلك الوقت .
كتبه : زكي بن سعد أبومعطي ( فتى بني زيد )