جمع العناصر فيما بين قبائل العرب من الحماية والتناصر

السلام عليكم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين ، هذا بحث حول ما قيل في ديوان العرب وما ورد في أخبارهم عن تناصر القبائل بعضها ببعض ، أو تناصر أفخاذ وبطون القبيلة الواحدة بعضها ببعض ، أو تناصر أفراد الفخذ الواحد وحماية أبناء هذه القبيلة لقبيلتهم .

مع ملاحظة أني لا أقصد من هذا البحث أن هذا هو المطلوب والمفترض الأن ، بل المقصود من هذا البحث إعطاء القارىء تصور عن وضع القبيلة قديما في الجاهلية وتناصر أبنائها وحمايتهم لها ، أو تناصر أفخاذ وبطون القبيلة الواحدة فيما بينهم أو طلب النصرة من قبيلة الى قبيلة أخرى وحمايتها لها ، وما ورد في هذا الموضوع

أما ونحن قد من الله علينا بنعمة الأسلام فلاشك أن المسلم ينصر أخاه المسلم ( بالحق وليس بالباطل ) أيا كان عربيا أو أعجميا ، والعلاقة التي تربطنا علاقة عقيدة أكثر من كونها مجرد علاقة لغة وعرق ودم .

إلا أن الإنصاف والإعتدال مطلوب ، وليس هناك شيء يمنع من الأستمرار على العادات والتقاليد العربية الأصيلة الموافقة لما جاء في الأسلام مثل الغيرة والشجاعة والكرم والفروسية وغيرها من العادات النبيلة إذا وضعت في مكانها الصحيح ، وعكس ذلك نبذ كل عادة عربية جاهلية مخالفة لما في عقيدة الأسلام وشريعته

ولبداية الموضوع أقول :
أولا : دوافع الحماية والتناصر :

إن سلوك الجاهلي الصريح وشعوره يرتبطان ارتباطاً كبيراً بنسبه الأبوي، فهو يرى :

أ – أن قومه جبال يأوي إليها ، وبهم يمتنع من الضيم والظلم الذي يعانيه من قبائل أخرى وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة :

إنّي امرؤٌ منعَت أَرومَةف عامفرف

ضَيمي، وَقد جَنفت عليَّ خفصومف
جَهَدوا العداوةَ كلَّها فَأَصَدَّها

عني مناكفبف عفزّها مَعلفومف

( أنظر شرح ديوان لبيد ص 132 )

ب – وهو يرى أنه يستمد من قومه القوة الموصلة الى الأمجاد ، وفي ذلك يقول دريد بن الصمّة القشيري :

ولكفنّي كَررتف بفضلف قَومفي

فجفدتف بفنفعمَةف وحَويتف باعَا
( أنظر أنظر ديوان دريد ص 92 ، والباع هنا : الشرف )

ج – وهو يهدد الأعداء بقومه ويحتمي بهم من الأعداء والخصوم ، إذا توعده أو هدده أحد من قبيلة أخرى ، وفي ذلك يقول بشر بن أبي خازم وقد توعده أوس بن حارثة الطائي :

أتفوعفدفني بفقومفك يا بنَ سفعدى

وذلكَ مفن مفلفمّاتف الخفطوبف
وحولي مفن بَني أَسَدف حفلولٌ

مفبفنّ بَينَ شفبّانف وشيبف
( أنظر ديوان بشر ص 21 ، والمبنّ أي : المقيم )

د – كما أن تناصر أبناء النسب الأبوي يشعرهم بالأمان .

وغالبا ما تطلب القبيلة التناصر من أبنائها وأفخاذها وبطونها أو من أبناء عمومتها من قبائل أخرى حين تعتدي عليها أو تغير عليها قبيلة أخرى ، أو حين الأقتراب من حرب ، أو حين حصول مظلمة من قبيلة ضدها أو غير ذلك من الملمات والخطوب

ثانياً : إفتخار العرب قديما بالنصرة :

– فقد كان الجاهليون يفخر بعضهم بنجدة بعض ، وحرصوا على إذاعة أخبار تناصرهم والافتخار بها .

ففي يوم الهذيل ، أغار الهذيل بن هبيرة التغلبي على ضبة والرّباب ، فأنجدهما بنو سعد بن زيد مناة ( من بني تميم ) – وضبة والرّباب وسعد بن زيد مناة أبناء عمومة يلتقون في أد بن طابخة – فقال في ذلك سلامة بن جندل :

وتغلبف، إذ حربفها لاقحٌ

تفشَبّ، وتفسعرف نيرانفها
غداةَ أتانا صريخف الرّفبابف

ولم يكف يصلحف خفذلانفها
صريخٌ لفضّبةَ يوم الهفذَيلف

وضبّةف تفردفف نفسوانفها
تَداركَهم، والضحّى غدوةٌ

خَناذيدف تفشعلف أعطانفها
بأسدف من الففزر غفلبف الرّقابف

مصاليتَ لم يفخشَ إدهانفها

أنظر ( ديوان سلامة بن جندل ) ويقصد بالفزر بنو سعد بن زيد مناة بن تميم .

ومن ذلك أيضا ، أن بني سفليم وادعت بني سهم الهذليين، ثم أراد السلميون أن يغزو بني لحيان الهذليين، فجمع معقل بن خويلد السهمي لبني لحيان ألف رجل من بني سهم، فقالت بنو سليم لمعقل: أتريد أن تنصر بني لحيان علينا، وبيننا وبينكم ما قد علمتم؟ فقال لهم معقل: وهل يفسلم القومف بني عمّهم؟ إنْ تقصفروا عنهم فنحن ماكفنا عليه، وإن تقاتفلوهم لا نخذلهم، فانصرف القوم عنهم، وقال في ذلك معقل :

تقول سليمٌ سالمونا وحاربوا

هذيلاً ولم تطمع بذلك مطمعا
فأمّا بنو لحيانَ فاعلم بأنّهفم

بنو عمّنا من يرمفهفم يَرمفنا معا
بنو عَمّنا جاءوا فَحلّوا جنابنا

فمن ساءَه فسيء أن نتجمعا
وإن خفذفوليهم على أن أمفدّهفم

بألفف إذا ما حاولوا النصرَ أَقرَعَا
أخونا ومن أخاهف مفحَارفباً

يَذَرهف لمرّ الحادثاتف بفأَجرعَا

( أنظر شرح أشعار الهذليين 1/375-376 )
– ويفخر الشعراء بقيام قبيلتهم وحدها بالأعباء الملقاة عليها وعلى أبناء عمومتها ، فعندما قام بنو أسد بن خزيمة بأعباء إمتلاك المراعي ، وكفوا بني كنانة بن خزيمة ذلك ، إفتخر بذلك بشر بن أبي خازم الأسدي فقال :

فَأَبلفغ إن عَرضتَ بفهفم رَسفولاً

كفنانةَ قومنَا في حيثف صارفوا
كَفَينا مَن تغيّبَ واستبَحنا

سنامَ الأرضف إذ قحفطَ القفطَارف

أنظر ( ديوان بشر بن أبي خازم ص 73 )

– وجاء في الشعر الجاهلي أيضا ، افتخار التجمعات القبلية الصغيرة بنصرة أصولها القبلية الكبرى. ومن ذلك فخر عمرو بن شأس الأسدي بأنّ رهطه بني سعد بن ثعلبة قد قاموا بأعباء الدفاع عن القبيلة كلّها ( بنو أسد ) ، وذلك في قوله :

بني أسَدف هل تعلمونَ بلاءَنا

إذا كان يومٌ ذا كواكبَ أشنعا
إذا كانتف الحفوّ الطفوالف كأنّما

كساها السّلاحف الأفرجفوانَ المفضّلعا
نذودف الملوكَ عنكمف وتذودفنا

إلى الموتف حتى تضبعفوا ثم نضبعَا
وغسّانَ حتى أسلمت سرواتفنا

عدّياً وكانَ الموتف في حيثف أوقَعا
ومن حفجرف قد أَمكنتكفم رمَاحفنا

وقد سَارَ حَولاً في معَدّ وأوضعَا
وكائن رَدَدنا عنكمف من مفتوّجف

يجيءف أمام الألفف يردي مقَنعَا
ضرَبنا يديهف بالسفيوفف ورأسَهف

غداةَ الوغَى في النّقع حتى تكنّعَا

أنظر ( شعر بن شأس ص 36 – 38 ) ، وعدي هو بن أخي الحارث بن أبي شمر الغساني .

– وللنقطة السابقة نفسها كانت رابطة القبيلة الواحدة ( النسب الأبوي ) تسهم في وجود
تجمعات قبلية أبوية كبيرة تقف في وجه الأخطار المحدقة بها، وهي تجمعات تشمل جماعات قبلية أصغر منها، ولا تلغيها، ومن الشعراء الذين حملوا لواء الدعوة إلى مثل تلك التجمعات عمرو بن معد يكرب الزبيدي في قوله داعياً إلى تجمع بطون مذحج لمواجهة بني مَعَدّ بن عدنان :

وأَودٌ ناصري وبنو زفبَيدف

ومَن بالخيفف مفن حَكمف بنف سَعدف
لعَمرفكَ لو تجرّدف مفن مفرادف

عرانينٌ عَلى دفهمف وجفردف
ومفن عنسف مفغامفرةٌ طحفونٌ

مفدرّبةٌ ومفن عفلةَ بنف جَلدف
ومفن سعدف كتائفبف مفعلفماتٌ

على ما كانَ من قربف وبفعدف

ومفن جنبف مفجنّبةٌ ضروبٌ

لهامف القومف بالأبطالف تفردي

وتفجمع مذحفجٌ فيرئّسفوني

لأَبرأتف المناهفلَ من معد

أنظر ( شعر عمر بن معدي كرب ص 78 – 79 ) والأسماء المذكورة في الأبيات بطون من مذحج .

– ولم تكن نصرة الجاهلي بسيفه فقط بل كان الشعراء منهم ينصرون قومهم بألسنتهم أيضا وفي ذلك يقول بشامة بن الغدير مفتخرا بأنه غضب لفرعي مضر : خندف وقيس :

ولقد غضفبتف لفخندفف وَلفقيسفهَا

لمّا ونى عن نَصرفها خفذالفها
دافَعتف عن أَعراضفها فمنَعتفها

ولديَّ في أمثالفها أمثالفها

إنّي امرؤٌ أسفمف القصائفدَ للعفدَى

إنّ القصائفدَ شرّها أَغفالفها

أنظر ( شرح ديوان الحماسة 1 / 393 – 394 )

ثالثاً : الخلافات والمناصرة :

كانت الخلافات بين أبناء النسب الأبوي تتراجع أمام واجب المناصرة؛ فهذا الربيع بن زياد العبسيّ يتغاضى عن خلافه مع قيس بن زهير العبسي، فيأتى إليه، ويعاقده على حرب بني ذبيان إذ قتلوا مالك بن زهير، وفي ذلك يقول الربيع:

فإن تكف حربكفم أمست عواناً

فإنّي لم أكفن ممّن جناها

ولكن ولدف سودةَ أرّثوها

وحشّفوا نارها لمَن اصطلاها

فإنّي غيرف خاذلكم ولكن

سأسعَى الآنَ إذ بلغَت مَداها

أنظر ( العقد الفريد لابن عبد ربه 5/153 ) وولد سودة : هم أبناء بدر بن عمرو الفزاري

وهذا صخر الغيّ الهذليّ أغار على بني المصطلق من خزاعة، فأحاطوا به،وجرحوه جرحاً مميتاً، فاستبطأ أصحابه، وتذكر بطون هذيل، وبينه وبين بعضها عداوة، كبني كبير، في أشعار منها :

لو أنّ أَصحابي بفنفو مفعاوفيه

أَهلف جنفوب نخلةَ الشّاميَه

ورهطف دفهمانَ ورهطف عاديَه

ومفن كَبيرف نفَرٌ زبَانفيَه
لبفزفلَت حَولفي عفرفوقٌ آنيَه

ما ترَكفوني للذئابف العَاوفه

أنظر ( شرح أشعار الهذليين 1 / 280 )
رابعاً : جحود المنتصَر لهم :

كان أبناء القبائل العربيّة يؤلمهم جحود المنتصرف لهم، فيسارعون إلى بيان فضل النصرة كقول عمار بن الكاهن الصموتي الكلابي يمنّ على ابن عمه عقيل بن الطفيل، ويلومه على جحوده، وكان عمار ساعد عقيلا على النجاة يوم النفتَأة ، يقول :

منَعتف عقيلاً والرماحف تنفوشفني

جَهَاراً فما أَثنى علَيَّ عقيلف
فلو قالَ خَيراً أو ثنَاءف حَمفدتفهف

وقلتف: ابنف عمّف قد جَزَى وخليلف
فلولا ابتفغَائي الحمدَ قاظَت نفساؤفهف

أيامى وفي أجواففهفنَّ غليلف
لَقاظَ أسيراً أو لَجرَّت عفظامَهف

إلى الغارف دَرماءف اليدينف ذَؤولف

أنظر ( أنظر أشعار العامريين الجاهليين ص 83 ) ويوم النتأة لعبس على بني عامر بن صعصعة .
خامساً : الخذلان :

كان خذلان بعض أبناء النسب الأبوي بعضهم الآخر أمراً معيباً، وموهناً لقوى الجماعة الأبوية، فالعربي الصريح يعزّ بابن عمّه، ويذلّ به، وفي ذلك يقول طرفة :

وأعلمف عفلماً ليسَ بالظنّف أنّهف

إذا ذَلّ مولَى المرءف فهوَ ذلفيلف

( أنظر ديوان طرفة ص 84 )

وأظهر طرفة استياءه من قومه إذا أسلموه لعمرو بن هند، ولم يخفّوا إلى نصرته، ورضوا بذل التخلّي عن ابن عمّهم، في قوله :

أَسلمَنفي قومي وَلَم يَغضَبفوا

لفسَوءَةف حَلت بفهفم فادفحَه
أنظر ( ديوان طرفة ص 118 )

ويشبه ذلك قول يزيد بن قنافة الطائي، وقد تخَلّى عنه ابن عمّه حاتم :

لَعَمرفي وما عَمري عَليَّ بفهَيّنف

لَبفئسَ الفَتَى المدعفوّ بالليلف حاتفمف

انظر ( شرح ديوان الحماسة 3/ 1464 )

وذكر القالي في كتابه نيل الأمالي أن ثلاثة نفر من بني مازن خرجوا ليغيروا على بني أسد فقفتل واحد وجفرح آخر، ونجا الثالث متخلّياً عن رفيقه الجريح،وأتى قومه فأخبرهم أن رفيقيه قد قفتلا، ثم برأ الجريح ، وجاء القوم، فانسلّ الكذوب، فقال الجريح، وهو أوفى بن مطر المازني، أبياتاً يؤنّب فيها ابن عمّه، ومنها قوله :

فلَيتَك لم تَكف مفن مَازنف

ولَيتَكَ في الرّفحمف لم تفحمَلف
ولَيتَ سفنانَكف صفنّارةٌ

وليت رفمَيحَكَ مفن مفغزَلف

أنظر ( نيل الأمالي للقالي ص 91 )

وقد اشتهرت أبيات قريط بن أنيف العنبري الذي ساءه ألاّ يغضب قومه له وقد استباح بنو ذهل بن شيبان إبله، فراح يفخر ببني مازن، وهم من أبناء عمومة قومه، نكاية ببني العنبر، قومه، وبعثا لهم على الانتقام. يقول قريط :
لَوْ كفنتف مفن مَازفنف لم تَستَبفح إفبفلي

بَنفو اللّقفيطَةف مفن ذفهلف بن شَيبَانا
إذاً لَقامَ بفنَصرفي مَعشَرٌ خفشنٌ

عند الحفيظةف إن ذفو لَوثةف لاَنَا
قَومٌ إذا الشَّرف أبدَى نَاجذيهف لهفم

طاروا إليهف زرَافاتف ووفحدَانا
لا يَسألونَ أخاهفم حفينَ يَندبفهفم

في النّائفباتف على ما قالَ بفرهَانا
لكفنَّ قَومفي وإن كانوا ذَوي عدَدف

ليسفوا مفنَ الشّر في شيءف وإن هَانا

يَجرفونَ من ظفلمف أهلف الظفلمف مَغففرَةً

ومفن إفسَاءةف أهلف السّفوءف إحسَانا
كأَنَّ رَبّكَ لم يَخلفق لفخَشيتفهف

سفوَاهفمف مفن جَميعف الناسف إنسَانَا

أنظر ( شرح ديوان الحماسة 1 / 23 – 31 )

إن الجماعات الأبوية تستاء من تخاذل أبناء عمّها مثلما يستاء الفرد الصريح من تخاذل أبناء عمه، ومن إلحاقهم الضرر به، ففي يوم التحاليق يوم لبكر على تغلب) صبرت بكر كلها، وتقاعس بنو يشكر وبنو لجيم وبنو ذهل البكريون فهجاهم بذلك سعد بن مالك البكري ( أنظر الأغاني للأصفهاني 5 / 57 ) .

سادساً : الوشاية :

والأدهى من الخذلان الوشاية بأبناء العم، ومهادنة الأعداء، أو مساعدتهم، فمن الوشاية قول الخرنق لعبد عمرو حين وشى بأخيها طرفة إلى عمرو بن هند :

أرى عَبدَ عَمروف قد أشَاطَ ابنَ عمّفهف

وأَنضَجَهف في غَلي قفدرف وما يدري

أنظر ( ديوان الخرنق بنت بدر ص 54 )

ومن مهادنة الأعداء قول قيس بن عاصم المنقري التميمي يذكر سكوت بني يربوع من بني تميم عن غزو الحوفزان، الحارث بن شريك الشيباني لأبناء عمومتهم :

جزى الله يَربوعاً بأَسوَأ سَعيها

إذا ذفكفرَت في النائفباتف أمورفها
وَيَومَ جَدودف قَد فضحتفم أباكفمف

وَسَالمفتمف، والخَيلف تَدمَى نفحورفها

أنظر ( النقائض 1 / 146 )

وكذلك من ممالأة الأعداء ومساعدتهم قول حاتم الطائي يخاطب بني جديلة الطائيين :

متى تَبغف وفدّاً مفن جديلةَ تَلقَهف

مع الشَّنء منه باقيا مفتَأثّرا
فإلاّ يفعادفونا جهارا تفلاقفهفم

لأعدائنا رفدءاً دَليلاً وَمفنذفرَا

أنظر ( ديوان حاتم الطائي ص 257 )

سابعا : الأخذ بالثأر :

كان الأخذ بالثأر من الدلالات البارزة على تناصر أبناء النسب الأبوي في الجاهلية . وهم يرون في ذلك العصر أن للثأر في المجتمع القبلي بعض المنافع لأنه يكبح من جماح بعض الحمقى الذين تسيرهم شهوات القتل والقسوة ، وإدراك الثأر عندهم يدفع الخزي عن قبيلة القتيل، فحين قتل نعيم بن عتاب عمرو بن واقد الرّياحيّ، وكان لقوم نعيم ثأر عند عتاب، قال نفعيم :

ما زلتف أرميهم بفثغرَهف

وَفارفسفهف حَتى ثَأَرتف ابنَ واقفدف
أفحاذفرف أن يفخزَى قَبيلي وَيفؤثرفوا

وَهفم أفسرَتي الدّفنيا وأقرَبف والدي

( أنظر نقائض جرير والفرزدق لأبي عبيدة 1 / 73 )

والثأر عندهم واجب على أقرب الناس للقتيل فقيس بن الخطيم ثأر لأبيه وجده بنفسه، لأن ذلك الثأر مسؤوليته، في ذلك يقول:

ثَأَرتف عَدفياً والخَطيمَ فَلَم أضفع

ولايَةَ أَشياءف جفعفلتف إزاءَها

أنظر ( ديوان قيس بن الخطيم ص 43 )

ومثال أخر على ذلك ، في يوم الغدير حارب دريد بن الصمة الجشمي غطفان طلباً بثأر أخيه، فقال:

فتلنا بفعَبدف اللهف خَيرَ لفدَاتهف

وخَيرَ شَبابف الناسف لو ضفمَّ أجمعَا
ذؤابَ بنَ أسماءف بنف زيدف بنف قاربف

منفيَّتهف أَجرَى إليها وَأوضَعَا

أنظر ( ديوان دريد ص 91 )

وعندهم أن تحمّل أقرب الناس إلى القتيل واجب الثأر له لا يمنع مشاركة الأباعد من الأقرباء في إدراك الثأر، ففي يوم الغدير أيضاً ثأر دريد بن الصمة لأخيه كما ثأر لبني سفليم أبناء عمومة قبيلته هوزان، وفي ذلك يقول دريد:

فَأبلغ سفليماً وَألفَافَها

وقد يَعطففف النّسَبف الأكبَرف
بفأنّي ثَأرتف بإخوانفكم

وَكفنتف كأنّي بفها مفخففرف

صَبَحنا فَزارَةَ سفمرَ القنا

فَمَهلاً فَزارَةف لا تَضجَرفوا

أنظر ( ديوان دريد ص 78 )
ونجد أيضا إعلان عبد هند بن زيد التغلبي أنّه يحمل نفسه مسؤولية الدفاع عن قبيلته حتى آخر رمق فيه. يقول عبد هند :

ألا لَيتَ شفعري مفن بَني الجَونف مَالفكف

إذا متّف مَن يَحمفي ذفمَارَهفمف بَعدي

سَأَحمفيهفمف ما دفمت حَيّاً وإن أَمفت

يَقفومفوا على قَبرف امرئف فاجفعف الفَقدف

أنظر ( الوحشيات لأبي تمام الطائي ص 19 )

ومن العجيب والطريف أنه قد عزّ على بشر بن أبي خازم أن يموت ولما يشف قلبه من أعداء قبيلته، فأفصح بذلك عن إحساس عميق بالمسؤولية تجاه أقاربه في قوله :

فَعزّ عَليّ أن عَجفلَ المنايا

ولما ألق كَعباً أو كفلاَبَا

ولما ألقَ خَيلاً من نفمَيرف

تَضفبّف لفثَاتفها تَرجفو النّهَابَا
ولمّا تلتبس خيلٌ بفخَيلف

فَيَطّعفنفوا ويَضطرفبفوا اضطرابَا

أنظر ( ديوان بشر ص 28 ، 29 )

نحمد الله سبحانه وتعالى على ما أنعم الله به علينا بعبادته بعقيدة سمحة صافية والبعد عن الحكم بتحاكم الجاهلية ، ومن رأى ما كان عليه العرب قبل الأسلام من تطاحن وعصبية جاهلية ، أدرك أن الأسلام دين عظيم غيّر معالم التاريخ بل والبشريّة

ثامناً : الصراعات الداخلية :

إن حاجة أبناء الجماعة الأبوية في العصر الجاهلي إلى التناصر حَبّب إليهم تجَنّب الصراعات الداخلية، وقد عبر عن تلك الحاجة، وعن الرغبة في تجنب تلك الصراعات أوس بن حجر في قوله :

يا راكباً إمّا عَرَضتَ فَبَلّغَن

يزيدَ بنَ عَبدف اللهف ما أنا قائفلف

فقومفكَ لا تَجهَل عليهم ولا تكن

لَهفم هَرفشاً تغتابفهفم وتفقاتفلف

وما يَنهضف البازي بغَيرف جَناحفهف

ولا يَحمفلف الماشفينَ إلاّ الحوامفلف
ولا سابقٌ إلا بساقف سَليمةف

ولا باطشٌ ما لم تفعفنهف الأنامفلف

أنظر ( ديوان أوس ص 99 )

ولذلك تخوّفّ أبناء القبيلة الواحدة في ذلك العصر من تفرّق جماعتهم، وضعف قواهم بالصراعات الداخلية، ومن ذلك التخوف قول قيس بن الخطيم :

فَقفلتف لها: قَومي أخافف عَليهفمف

تَباغفيَهفم، لأيفبهفكفم ما أحاذفرف
فلا أَعرففَنكفم بَعدَ عفزّف وثَروةف

يفقالف: ألا تفلكَ النّبيتف عَسَاكفرف
فلا تَجعَلفوا حَرباتفكفم في نفحورفكفم

كما شَدَّ ألواحَ الرّتاجف المَسَامفر

أنظر ( ديوان قيس ص 208 ، 209 )

ولذلك كان التخوف من تفرق أبناء القبيلة الواحدة يدفع المنتمين إليها من التغاضي عن ظلم بعضهم بعضاً أحياناً؛ فقد تغاضى مرّة بن همّام الشيباني عن جرأة ابن عمّه عليه إبقاءً على وحدة العشيرة، وتجنّبا لايقاع الشرّ بينها، وفي ذلك يقول مفرّة :

يا عَوفف وَيحَكَ ففيمَ تأخفذف صفرمتي؟

ولَكفنتف أسرَحفها أمامَكَ عفزَّبا
تا للهف لَولا أَن تشَاءَى أَهلفنا

-وَلَشرّف ما قال امرؤف أنّ يكذفبا-

لَبعَثتف في عفرضف الصّفرَاخف مففَاضَةً

وَعلَوتف أَجرَدَ كالعَسفيبف مفشَذّبا

أنظر ( شرح إختيارت المفضل 3 / 1305 )

ولكن العصر الجاهلي شهد صراعات مريرة وطاحنة بين جماعات تنتمي إلى نسب أبوي واحد، كحرب البسوس، وداحس والغبراء، وبفعَاث، فكان المتنوّرون من صرحاء النسب يميلون إلى فَضّ الخلافات الحاصلة بين أقاربهم، مفتعظين بمن سبقهم، فحين سعى دريد بن الصمة الجشمي في الصلح بين العباس بن مرداس وخفاف بن ندبة السفلميين، قال دريد مخاطباً بني سفليم وهم إخوة قومه هوازن :

سفليمف بنَ منصورف أَلَمّا تفخَبّرفوا

بما كان مفن حَربَي كفلَيبف ودَاحفسف
وما كان في حَربف اليَحَابرف مفن دَمف

مفباحف وجَدعف مفؤلمف للفمَعاطفيسف
وما كانَ في حَربَي سفلفيمف وَقَبلَهفم

بحَربف بفعَاثف من هَلاكف الفَوارفسف
تَسافَهَتف الأحلامف فيها جَهَالَةً

وأضرفمَ فيها كلّف رَطبف ويَابسف

فَكفّفوا خففَافاً عن سَفاهَةف رَأيهف

وَصَاحفبَهف العبَّاسَ قَبلَ الدَّهارفسف

وإلاّ فَأنتم مفثلف مَن كانَ قَبلكم

وَمَن يَعقفلف الأمثالَ غيرف الأكايسف

أنظر ( ديوان دريد ص 88 )

ودعوات التصالح بين أبناء العمومة المتخاصمين لم تصدر عن ضعف بل كانت وليدة قناعات بأهميتها وضرورتها، ولذلك لا نجد في الدعوة إلى التصالح استخذاء ولا استجداء بل نجد في الغالب إظهار القدرة على الحرب إن كان لا بدّ منها. ولا شك أن إظهار المقدرة الحربية هو ضمان لقيام علاقات متكافئة، تراعي مصالح الأطراف المتحاربة.

لقد أدرك العقلاء من صرحاء النسب في ذلك العصر أن تقاتل أبناء العمّ يضعف جماعتهم الأبوية، فكانوا يتردّدون في الإقدام على قتل أبناء عمومتهم، ومن الشعر الدال على ذلك قول الحارث بن وَعْلَةَ الذهليّ :

قَومفي هفمف قَتلفوا، أمَيمَ، أخفي

فإذا رَميتَ يفصفيبفني سَهمفي
فَلَئفن عَفَوتف لأعففوَن جَلَلاً

وَلَئفن سَطَوتف لأفوهفنَن عَظمفي

أنظر ( شرح ديوان الحماسة 1 / 204 )

وبسبب الأضرار الجسيمة التي ألحقتها الصراعات بين أبناء النسب الواحد، توجه العقلاء جهة الإصلاح بين المتحاربين، وحقن الدماء، ولقي ذلك التوجه قبولاً حسناً، وآية ذلك افتخارف المصلحين بتوجهاتهم السليمة، وقصدف الشعراء لهم بالمديح، وممن افتخر بمساعيه السلمية معاوية بن مالك العامري، وقد أصلح بين بطون بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، في قوله:

رَأبتف الصّدعَ مفن كَعبف فَأَودى

وكانَ الصّدعف لا يَعفدف ارتفئابا
فأمسَى كَعبفها كَعباً وكانت

مفنَ الشّنآنف قد دفعفيَت كفعابا

وتغنى الشعراء بمدح الذين يصلحون بين الأقارب المتحاربين؛ فحين أصلح الحارث بن عوف وهرم بن سنان المرّيَّيْن بين عبس وذبيان وقف زهير بن أبي سلمى كثيراً من شعره على مدحهما، ومن ذلك قوله :

سَعَى سَاعياً غَيظف بنف مفرّةَ بَعدَما

تَبَزّلَ ما بينَ العَشيرةف بالدّمف

فأقسَمتف بالبيتف الذي طافَ حَولَهف

رجالٌ بَنوهف مفن قفريشف وَجفرهفمف

يَميناً لَنفعمَ الّسّيدانف وفجدفتفما

على كل حالف من سَحيلف وَمفبرَمف

تَداركتفما عَبساً وذفبيانَ بَعدَمَا

تفانَوا ودَقّفوا بينهم عفطرَ مَنشفمف

عَظفيمينف في عفليا مَعَدّ وغيرفها

ومَن يَستَبح كَنزاً مفن المجدف يَعظفمف

أنظر ( أشعار الجاهليين ص 53 )

ولحرصهم على وأد الخلافات كانوا يتصنعون الحلم أحياناً فيما بينهم، ومنهم حاتم الطائي الذي يقول :

تَحلّم على الأدنَينَ واستَبقف وفدّهفم

ولن تستطيع الحفلمَ حَتى تَحَلما

أنظر ( ديوان شعر حاتم ص 223 )

ويفتخر بأنه يقابل السيئة بالحسنة، فيقول :

وَعَوراءَ أَهداها امرفؤٌ مفن عَشفيرتي

إليّ، وما بي أن أكونَ لها أهلا

وأَجزيفهف بالحفسنَى إذا هي زفجّفيَت

إليَّ، ولا أجزي بفسَيّفئةف مفثلا

أنظر ( المصدر السابق ص 299 )

وسلوك الحلم ليس ذلاً ولا ضعفاً بل وليد إحساس بعمق العلاقة بين أبناء الجماعة الواحدة، وبحاجة بعضها إلى بعضها الآخر، وبتساويهم في المنزلة؛ فحاتم الذي أكثر من الفخر بالتغاضي عن هفوات أبناء عمومته كان يشعر بتساوي أبناء الجماعة الواحدة في المنزلة إذ يقول :

إذا أنا لم أرَ ابنَ العَمّف فَوقفي

فإنّي لا أرَى ابنَ العَمّف دفوني

أنظر ( المصدر السابق ص 276 )

و حاتم الطائي من خلال شعره يمتلك إحساساً عالياً بالمسؤولية تجاه أقاربه، فكانت رغبته في الإصلاح بين أبناء جماعته سبباً في موقف جلب له الذّمّ من بعض أقاربه؛ فقد اعتزل حاتم قومه في حرب الفساد التي قسمت قومه إلى حزبين متصارعين هما: جديلة، و الغوث، وارتحل حاتم عن قومه، وأقام في غيرهم، فهجاه بذلك زيد الخيل الطائي ، ولكن حاتم لم يأبه لذلك؛ فموقفه نابع من تصوره لعاقبة الحروب بين الأقارب، ولاعتقاده بأن نصرة الأقارب ليست واجبة إن كان القريب طالب النصرة ظالماً، وفي ذلك يقول :

وَأَغففرف إن زَلّت بفمَولايَ نَعلفهف

ولا خَيرَ في المَولَى إذا كان يفقرَفف
سأنْصفرهف إفن كان للحقّ تابفعاً

وإن جَارَ لم يَكثفر عليه التّعطّففف

أنظر ( المصدر السابق ص 213 )

إتضح بذلك أنّ الانتماء إلى النسب الأبوي الواحد في العصر الجاهلي من خلال شعرهم وأدبهم يوجب على المنتمين إليه التناصر، ويدفعهم إلى تجنب الصراعات الداخلية؛ فهي تضعف قواهم، وتعوق قدرتهم على مجابهة أخطار مجتمعهم القبلي المتصارع من أجل حياة أفضل، والإنسان الجاهلي الصريح يشعر بالطمأنينة إذ يحتمي بنسبه الأبوي، وتتولد عنده القدرة على أن يكون واثقاً بنفسه، ومستعداً للقتال إلى جانب عصبته مثلما هي مستعدة لمثل ذلك، ولكن بعض الصرحاء سَعَوا إلى إطفاء نيران الحروب، ولم يتسرّعوا إلى نصرة أقاربهم إن كانوا ظالمين لغيرهم.

اللهم لك الحمد والشكر على نعمة الأسلام هذا الدين العظيم الذي وحّد أبناء هذه العقيدة في مشارق الأرض ومغاربها لعبادته وحده دون سواه .

مراجع البحث

1 – بحث ( الأنتماء في الشعر الجاهلي ) للدكتور فاروق أحمد اسليم .

2 – شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامريّ ، تحقيق د . إحسان عبّاس .

3 – ديوان الخرنّق بنت بدر ، رواية أبي عمرو بن العلاء ، شرح وتحقيق يسري عبدالغني عبد الله .
4 – ( الأغاني ) ، لأبي الفرج الأصفهاني .

5 – الوحشيات لأبي تمّام الطائي ، تحقيق عبدالعزيز الميمني .

6 – ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي ، تحقيق د عزة حسن .

7 – شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ، نشر أحمد أمين وعبدالسلام هارون

8 – أشعار العامريين الجاهليين ، د عبدالكريم يعقوب .

9 – شعر عمر بن معد يكرب الزبيدي ، جمع وتحقيق مطاع الطرابيشي .

10 – شرح اختيارات المفضل الضبي ، للخطيب التبريزي ، تحقيق د فخر الدين قباوة

11 – شرح أشعار الهذليين للسكري ، تحقيق عبد الستار أحمد فراج .

12 – العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي .

13 – نيل الأمالي للقالي .

14 – ديوان طرفة بن العبد ، شرح الأعلم الشمنتري ، تحقيق درية الخطيب ، لطفي الصقال .

وهناك مراجع أخرى ، وهي مذكورة أثناء ثنايا البحث ، فكلما ذكرت عبارة أو أبياتاً حاولت أن أرجعها الى مصدرها قدر الأمكان

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كتبه : زكي بن سعد أبومعطي ( فتى بني زيد )

التعليقات على جمع العناصر فيما بين قبائل العرب من الحماية والتناصر مغلقة | الزيارات: 4٬960 views | التاريخ: 2008/03/06

التعليقات مغلقة.